رغم أنه لا يوجد في القرآن مناقشة صريحة لمنكري الخالق إلا أن الإيمان بوجود خالق لهذا الكون قضية ضرورية لا مساغ للعقل في إنكارها، فهي ليست قضية نظرية تحتاج إلى دليل وبرهان، ذلك لأن دلالة الأثر على المؤثر يدركها العقل بداهة والعقل لا يمكن أن يتصور أثراً من غير مؤثر، أي أثر ولو كان أثراً تافهاً، فكيف بهذا الكون العظيم؟ ولذلك لم يناقش القرآن هذه القضية، حتى حينما أورد إنكار فرعون لرب العالمين يوم أن قال: { وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} (الشعراء ، آية : 23)، و{مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي} (القصص ، آية : 38) ، { يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ* أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} (غافر ، آية : 36، 37). فكان موسى عليه السلام لا يعير اهتماماً لهذه الإنكارات وتعامل مع فرعون على أساس أنه مؤمن بوجود الخالق فتراه يقول له مثلاً :{ قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ ا لسَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَونُ مَثْبُورًا} (الإسراء ، آية : 102). وقد عزا القرآن الكريم هذا الإنكا ر والتكبر والعناد، فقال : { ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ * فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} (المؤمنون ، آية : 45 47)، وأوضح أكثر فقال: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا...} (النمل ، آية : 14). |
إن البيئة التي أنزل فيها القرآن الكريم كانت وثنية في الغالب وكتابية في بعض القرى أو بعض الأشخاص والكتابيون لا ينكرون الخالق، وأما الوثنيون فمع عبادتهم للأوثان إلا أنهم كانوا يؤمنون بالخالق سبحانه، وسجل القرآن هذا لهم في أكثر من موضع، قال تعالى : {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } (لقمان ، آية : 25)، وقال تعالى: {وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (لقمان ، آية : 32)، ولهذا لم يحتج القرآن أن يفتح الموضوع مع هؤلاء الناس بل حتى خارج هذه البيئة لم يعرف هناك منكر للخالق. |
ومع خلو القرآن من مناقشة صريحة لمنكري الخالق إلا أنه تضمن أدلة كثيرة لإثبات الخالق، غير أنها جاءت في الغالب لإثبات مسائل أخرى، كالوحدانية والنبوة والبعث، ومن هذه الأدلة التي ذكرت في القرآن الكريم: |
|
دليل الخلق: |
وخلاصة هذا الدليل، أن هذا الخلق بكل ما فيه شاهد على وجود خالقه العلي القدير سبحانه، قال تعالى:{ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَّا يُوقِنُونَ} (الطور، آية :35 36)، يقول لهم أنتم موجودون هذه حقيقة لا تنكرونها وكذلك السموات والأرض موجودتان ولا شك وقد تقرر في العقول أن الموجود لابد من سبب لوجوده، وهذا يدركه راعي الإبل في الصحراء، فيقول: البعرة تدل على البعير والأثر يدل على المسير. |
فسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج تدل على العليم الخبير. ويدركه كبار العلماء الباحثين في الحياة والأحياء، يقول أحدهم: إن الله الأزلي الكبير العالم بكل شيء والمقتدر على كل شيء قد تجلى لي ببدائع صنعه حتى صرت دهشاً متحيراً فأي قدرة وأي حكمة وأي إبداع أودعه مصنوعات يده صغيرها وكبيرها. وهذا الذي أشارت إليه الآية هو الذي يعرف عند العلماء باسم: قانون السببية هذا القانون يقول: |
· "إن شيئاً من "الممكنات" لا يحدث بنفسه من غير شيء، لأنه لا يحمل في طبيعته السبب الكافي لوجوده ولا يستقل بإحداث شيء، لأنه لا يستطيع أن يمنح غيره شيئاً لا يملكه هو". |
وبهذا الدليل كان علماء الإسلام ولا يزالون يواجهون الجاحدين، فهذا الإمام أبو حنيفة يعرض له بعض الزنادقة المنكرين للخالق، فيقول لهم: ما تقولون في رجل يقول لكم: رأيت سفينة مشحونة بالأحمال مملوءة من الأنفال، قد أحتوشتها في لجة البحر أمواج متلاطمة ورياح مختلفة، وهي من بينها تجري مستوية ليس لها ملّاح يجريها ولا متعهد يدفعها، هل يجوز في العقل؟. قالوا: هذا شيء لا يقبله العقل. |
فقال أبو حنيفة: يا سبحان الله إذا لم يجز في العقل سفينة تجري في البحر مستوية من غير متعهد ولا مجر فكيف يجوز قيام هذه الدنيا على إختلاف أحوالها وتغيّر أعمالها وسعة أطرافها وتباين أكنافها من غير صانع ولا حافظ، فبكوا جميعاً، وقالوا: صدقت وتابوا. |
هذا القانون الذي سلمت به العقول وانقادت له هو الذي تشير إليه الآية الكريمة: {أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون} وهو دليل يرغم العقلاء على التسليم بأن هناك خالقاً معبوداً، إلا أن الآية صاغته صياغة بليغة مؤثرة فلا تكاد الآية تمس السمع حتى تزلزل النفس وتهزها. |
|
لقد تناول القرآن الكريم قضية الخلق والتدبير تناولاً فريداً وعنى بتوجيه العقول إلى النظر في آفاق الكون وآيات الله الكثيرة، وأهاب بالعقل أن يستيقظ من سباته، ليتفكر في ملكوت السموات والأرض وما أودع فيها من الآيات، ويكرر القرآن ذلك في أساليب متنوعة ليرى هذا الإنسان ويسمع في آفاق الكون ما يقوده إلى الإيمان بخالقه سبحانه وتعالى ويعلم أن هذا الكون هو من صنع الله الخالق المدبر المستحق للعبادة وحده لا شريك له. ( من كتاب الإيمان بالله ) |