المؤلف : د. زغلول النجار
الموضوع : اسلاميات
العنوان : الحكمة من الصيام
التاريخ :
20-02-2010
|
يقول ربنا ـ تبارك وتعالى ـ: {ياأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب علي الذين من قبلكم لعلكم تتقون}(البقرة:183). والخطاب هنا للمؤمنين في زمن البعثة المحمدية الشريفة يخبرهم أن الصيام كتب عليهم كما كتب على الذين من قبلهم (من لدن آدم إلي زمانهم)، وفي ذلك تأكيد علي وحدة رسالة السماء المستمدة من وحدانية الخالق ـ سبحانه وتعالى ـ، وتأكيد كذلك على أن الله ـ تعالى ـ قد ختم رسالات السماء ببعثة الرسول الخاتم ـ صلى الله عليه وسلم ـ فليس من بعده نبي ولا رسول، لذلك قال ـ تعالى ـ:{... كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم..} ويدعم ذلك استخدام الفعل( كتب) بدلا من( شرع) أو( فرض) أو( وصي) لأن هذه الأفعال وقتية، تتعلق بالشرائع الخاصة بأمة من الأمم في زمن من الأزمان، لكن الفعل( كتب) يشير إلي ثبات الحكم إطلاقا، بمعني أن صيام شهر رمضان المبارك بالهيئة التي حددها لنا كل من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة كان مكتوبا على الأمم من قبلنا كما هو مكتوب علينا، وإن انحرف أهل الكتاب عنه، وابتدعوا فيه ما لم ينزل به الله سلطانا.
وأوجه الحكمة من الصيام عديدة، منها ما يلي:
1- تقوي الله، لذلك ختمت الآية الكريمة بقوله ـ تعالي ـ:{.. لعلكم تتقون}، والتقوي تعرف بالإيمان بالله الخالق، البارئ المصور، والخضوع لجلاله وحده بالعبودية والطاعة، وخشيته في السر والعلن، وهو ما يعبر عنه بتعبير الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل أي تطبيق القرآن الكريم أمرا واقعا في حياة الناس أفرادا وجماعات، والاستعداد ليوم الرحيل أي: الاستعداد للموت، وهذه القضايا الثلاث تؤصل فهم رسالة الإنسان في هذه الحياة، عبداً لله ـ تعالى ـ يعبده بما أمر، وينفذ أوامره، ويتقي محارمه، ومستخلفا ناجحا في الأرض، مطالبا بعمارتها وإقامة شرع الله وعدله فيها طيلة عمره( أجله) الذي ليس له من بعده إلا الموت، وحياة البرزخ، ثم البعث والحشر والحساب والجزاء.
والذي يصل إلى هذا المستوي من الفهم هو المؤمن الفاقه لدينه، الذي يزيده الصيام طاعة لله، وإيثارا لمرضاته، وتزيده تقوي الله حرصاً على حسن أداء العبادات، ومنها الصيام الذي تحرسه تقوي الله من أي مفسدة لهذه العبادة العظيمة التي قال عنها الله ـ تعالى ـ في الحديث القدسي الذي يرويه المصطفي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن ربه: "كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشر أمثالها إلي سبعمائة ضعف، إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به.."، وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "إن للصائم عند فطره دعوة لا ترد".
2 ـ زيادة الإخلاص في قلب الصائم تجعل الصيام خالصا لوجه الله ـ تعالي ـ وتقوية للإرادة عنده بمداومة المقاومة لكل من الجوع والعطش، ولغيرهما من الشهوات والمغريات، ولذلك قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه"، وقال:" الصوم جنة "أي وقاية من المعاصي ومن النار بحرص الصائم على غض البصر، وستر البدن، وكف الأذي عن الناس، لذلك قال ـ صلي الله عليه وسلم ـ: "بعد من أدرك رمضان فلم يغفر له".
3 ـ إشعار الأغنياء بما يعانيه الفقراء والمعوزون في المجتمعات الإنسانية من معاناة الجوع والعطش وآلام الفاقه، فيذكرهم ذلك بحقوق المحتاجين عليهم، ويعودهم على حسن الرعاية لهم، وجاء في حديث ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلا رسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أجود بالخير من الريح المرسلة. فشهر رمضان هو شهر تدريب المسلمين على الجود والكرم والبذل في سبيل الله، وفي ذلك يقول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ:" من فطر صائما كان له مثل أجره غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيء".
4 ـ تذكير المسلمين بمدارسة القرآن الكريم في الشهر الذي أنزل فيه هذا الكتاب العزيز هدي ورحمة للمؤمنين، حتي يتعودوا على ملازمته في حياتهم قراءة وفهماً وتدبرا وتطبيقا واقعا في حياة الناس، ورسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: الصيام والقرآن يشفعان يوم القيامة للعبد، يقول الصيام: أي رب منعته الطعام والشهوة فشفعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه، قال: فيشفعان.
5 ـ تعويد الصائم علي ضبط النفس، والبعد بها عن جميع صور الحرام من الغش والاحتيال والظلم والسرقة والربا والرشوة وأكل أموال الناس بالباطل، وتعويدها على تقويم السلوك، والالتزام بمكارم الأخلاق، فالرسول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ يقول: "إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن شاتمه أحد أو قاتله فليقل إني صائم".
ويقول ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه".
6 ـ تعويد المسلم على الاجتهاد في العبادة: فرائضها ونوافلها، فيجمع إلي الصلوات المفروضة العديد من السنن، ومنها سنة صلاة التراويح، وقيام الليل، والمواظبة على تلاوة القرآن والتفقه في الدين، وحضور مجالس العلم، وأداء العمرة إن استطاع إلي ذلك سبيلا لقول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم: عمرة في رمضان تقضي حجة معي، وكان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يجتهد في العبادة طوال شهر رمضان ما لا يجتهد في غيره، خاصة في العشر الأواخر منه، فعن أم المؤمنين السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنها قالت: إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان إذا دخل العشر الأواخر أحيا الليل، وأيقظ أهله، وشد المئزر، وعنها ـ رضي الله عنها ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتي توفاه الله عز وجل ثم اعتكف أزواجه من بعده، وروي الشيخان عن أبي هريرة أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه".
7 ـ تعريض المسلم لبركات ليلة القدر التي يصفها القرآن الكريم بأنها خير من ألف شهر( أي: أن العبادة فيها تعدل العبادة في أكثر من83 سنة)، ورسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه، وقال: تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان، هذا فضلا عن بركات شهر رمضان، وهو الشهر الوحيد الذي ذكر اسمه صراحة في كتاب الله، والذي اختصه الله ـ تعالى ـ بإنزال القرآن الكريم فيه، فقال ـ عز من قائل ـ: شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدي للناس وبينات من الهدي والفرقان( البقرة:185)، لذلك قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار وصفدت الشياطين".
ويؤكد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن جميع ما نعلم من رسالات السماء أنزل في هذا الشهر الفضيل، فقال: أنزلت صحف إبراهيم أول ليلة من شهر رمضان، وأنزلت التوراه لست مضت من رمضان، وأنزل الزبور لثلاث عشرة مضت من رمضان، وأنزل الإنجيل لثماني عشرة خلت من رمضان، وأنزل القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان، وهذا يؤكد مرة أخري وحدة رسالة السماء المنبثقة من وحدانية الخالق ـ سبحانه وتعالى ـ كما يؤكد على حرمة وكرامة هذا الشهر عند رب العالمين، لذلك قال المصطفي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "من أفطر يوما من رمضان في غير رخصة رخصها الله له لم يقضه صوم الدهر كله وإن صامه".
8 ـ إحياء روح الجهاد في أمة الإسلام، وذلك بتذكير المسلمين بأن جميع انتصاراتهم العسكرية كانت في هذا الشهر الفضيل من غزة بدر الكبري، إلى فتح مكة، إلي معركة الشرف والكرامة في العاشر من رمضان سنة1393 هـ/1973 م.
9 ـ إتاحة الفرصة لأجساد الصائمين بأخذ فترة راحة استشفائية يتم خلالها إصلاح أعطابها، وتطهيرها مما تجمع فيها من الدهون، والشحوم، والسموم، والنفايات على مدي السنة، خاصة عند المصابين بالالتهابات المزمنة في الجهاز الهضمي وغدده، والمبتلين بزيادة الوزن مما يؤدي إلي التهابات المفاصل التنكسي في الركبتين، وعند المصابين بارتفاع ضغط الدم واضطرابات الجهاز الدوري بصفة عامة، وذلك لأن10% من كمية الدم التي يدفع بها القلب إلي الجسم تذهب إلي الجهاز الهضمي في أثناء عملية الهضم، ويتوقف ضخ هذه الكمية في أثناء الصيام مما يقلل من جهد عضلة القلب ويريحها طوال فترة الصيام.
هذا بالإضافة إلى ما ثبت للصوم من تأثيره الإيجابي على قدرات التفكر والتذكر، وتقوية جهاز المناعة، والشفاء من العديد من الأمراض من مثل أمراض الكلي والمثانة وغيرها، ولذلك قيل: صوموا تصحوا.
10 ـ صوم شهر رمضان يذكر المسلمين بحقيقة أنهم أمة واحدة، لديها من عوامل التوحد ما لا يتوافر لغيرها من الأمم التي أدركت أننا نعيش اليوم في عالم التكتلات البشرية الكبيرة، فتوحدت، في الوقت الذي تسعي لمزيد من تفتيت المسلمين بعد أن قطعت أوصالهم في أكثر من57 دولة ودويلة فبعثرت إمكاناتهم المادية والمعنوية والبشرية، وأدت إلي تخلفهم في كل منحي من مناحي الحياة، ولعل كل رمضان يمر بالمسلمين يذكرهم بحقيقة أنهم أمة واحدة حتي يبادروا بتجسيد ذلك أمرا واقعا، إنقاذا لأنفسهم وللبشرية الضالة من حواليهم من الهلاك.
من أجل ذلك قال ربنا ـ تبارك وتعالى: { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون، أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون} ( البقرة:183 ـ184).
وفي ختام هاتين الآيتين الكريمتين يتضح عدد من أوجه الإعجاز العلمي والتشريعي والإنبائي في النص القرآني، فالحمد لله على نعمة الإسلام، والحمد لله على نعمة القرآن، والحمد لله على بعثة خير الأنام ـ صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلي يوم الدين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. |
|
|